فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ}
أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم عليها أوهن من بيت العنكبوت وما زعمه المعاصرين منهم فيها وإن كان غير ثابت عندنا إلا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور.
{وَإِذَا السماء فُرِجَتْ} شقت كما قال سبحانه: {إذا السماء أنشقت} [الانشقاق: 1] {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] وقيل فتحت كما قال سبحانه: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} [النبأ: 19] وأنشد سيبويه: الفارجي باب الأمير المبهم
ولا مانع من ذلك أيضاً سواء كانت السماء جسماً صلباً أو جسماً لطيفاً وأدلة استحالة الخرق والالتئام فيها خروق لا تلتئم.
{وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه {وبست الجبال بسا} [الواقعة: 5] {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} [المزمل: 14] قال في (البحر) فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل {نسفت} أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرأ عمرو بن ميمون {طمست} و{فرجت} بتشديد الميم والراء وذكر في (الكشاف) أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد.
{وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جار الله وتحقيقه كما في (الكشف) أن توقيت الشيء تحديده وتعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن المؤقت هو الإحداث لا الجثث ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهياً إلى وقته المحدود وعلى هذا يقع عليها دون إضمار إذا كان بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما كان لوجه لأن القيامة ليست وقتاً يتبين فيه وقت الرسل الذي يحضرون فيه للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وإذا الرسل أقتت يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إذا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلابد من التأويل وقد أشير إليه في ضمن التفسير وقرأ النخعي والحسن وعيسى وخالد {أقتت} بالهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضاً {وقتت} بالواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بين في محله وقال عيسى وقتت لغة سفلى مضر وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر {وقتت} بواو واحدة وتخفيف القاف وقرأ الحسن أيضاً {ووقتت} بواوين على وزن فوعلت وإذا في جميع ما تقدم شرطية.
وقوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)} قيل مقول لقول مقدر هو جواب إذا أي يقال: {لايّ يَوْمٍ} إلخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير من قولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما يشعر به الكلام والاستفهام للتعظيم والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم وظهور ما كانت الرسل عليهم السلام تذكره من الآخرة وأحوالها وفظاعة أمورها وأهوالها وجوز أن يكون الضمير للأمور المشار إليها فيما قبل من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتاقيت الرسل وأن يكون للرسل إلا أن المعنى على نحو ما تقدم وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع {أقتت} أي مقولاً فيها لأي يوم أجلت وأن تكون الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها أي بمجيئه وحصوله وجواب إذا على الوجهين قيل قوله تعالى الآتي: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} [المرسلات: 15] وجاء حذف الفاء في مثله وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أي وقع الفصل أو وقع ما توعدون واختار هذا أبو حيان ويجوز على احتمال كون الجواب ويل يومئذٍ للمكذبين أو تقدير المقدر مؤخراً كون جملة لأي يوم أجلت اعتراضاً لتهويل شأن ذلك اليوم.
وقوله تعالى: {لِيَوْمِ الفصل} بدل من {لأي يوم} [المرسلات: 12] مبين له وقيل متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} أي أي شيء جعلك دارياً ما هو على أن {ما} الأولى مبتدأ و{أدراك} خبره و{ما} الثانية خبر مقدم و{يوم} مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمراً بديعاً لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ما لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أي في ذلك اليوم الهائل وويل في الأصل مصدر بمعنى هلاك وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه إلا أنه رفع على الابتداء للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويومئذٍ ظرفه أو صفته فمسوغ الابتداء به ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما {في سلام عليكم}
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)}
كقوم نوح وعاد وثمود وقرأ قتادة {نهلك} بفتح النون على أنه من هلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر في قول العجاج:
ومهمه هالك من تعرجا ** هائلة أهواله من أدرجا

لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أو فيه وليناسب ما في الشطر الثاني.
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} بالرفع على الاستئناف وهو وعيد لأهل مكة وأخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر كأنه قيل ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم ويقويه قراءة عبد الله {ثم سنتبعهم} بسين الاستقبال وجوز العطف على قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ} [المرسلات: 16] إلى آخره وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو {نتبعهم} بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على {نهلك} فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكاً من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنهم بعد ما كانوا قد أهلكوا والعطف على {نهلك} يقتضيه وجوز أن يكون قد سكن تخفيفاً كما في {وما يشعركم} [الأنعام: 109] فهو مرفوع كما في قراءة الجمهور إلا أن الضمة مقدرة.
{كذلك} مثل ذلك الفعل الفظيع {نَفْعَلُ بالمجرمين} أي بكل من أجرم والمراد أن سنتنا جارية على ذلك.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذا أهلكناهم {لّلْمُكَذّبِينَ} بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا وقيل لا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما سمعت وفيما تقدم {يوم الفصل} [المرسلات: 13] ونحوه وكذا يقال فيما بعد وجوز اعتبار الاتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)}
الفاء للتفريع على قوله: {إن ما توعدون لواقع} [المرسلات: 7] لأنه لما أفاد وقوع البعث وكان الخاطبون ينكرونه ويتعللون بعدم التعجيل بوقوعه، بُيّن لهم ما يحصل قبله زيادة في تهويله عليهم.
والإِنذار بأنه مؤخّر إلى أن تحصل تلك الأحداث العظيمة، وفيه كناية رمزية على تحقيق وقوعه لأن الأخبار عن أمارات حلول ما يوعدون يستلزم التحذير من التهاون به، ولذلك ختمت هذه الأخبار بقوله: {ويل يومئذٍ للمكذبين} [المرسلات: 19].
وكررت كلمة {إذَا} في أوائل الجمل المعطوفة على هذه الجملة بعد حروف العطف مع إغناء حرف العطف عن إعادة {إذا} كما في قوله: {فإذا برق البصر وخَسَف القمر وجُمع الشمس والقمر يقول الإنسان} الآية [القيامة: 7 10]، لإِفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل ليكون مضمونها مستقلاً في جعله علامة على وقوع ما يوعدون.
وطَمْسُ النجوم: زوال نورها، وأن نور معظم ما يلوح للناس من النجوم سببه انعكاس أشعة الشمس عليها حين احتجاب ضوء الشمس على الجانب المُظلم من الأرض، فطمس النجوم يقتضي طمس نور الشمس، أي زوَال التهابها بأن تبرد حرارتها، أو بأن تعلو سطحها طبقة رمادية بسبب انفجارات من داخلها، أو بأن تتصادم مع أجرام سماوية أخرى لاختلال نظام الجاذبية فتندك وتتكسر قِطعاً فيزول التهابها.
ومعنى {فرجت} تفرّق ما كان ملتحماً من هيكلها، يقال: فرج الباب إذا فتحه.
والفرجة: الفتحة في الجدار ونحوه.
فإذا أريد بالسماء الجنس الصادق بجميع السماوات على طريقة العموم الحقيقي، أو الصادق بسماوات مشهورة على طريقة العموم العرفي وهي السماوات السبع التي يعبر أهل الهيئة عنها بالكواكب السيارة جاز أن يكون فَرج السماوات حدوث أخاديد عظيمة في الكواكب زيادة على طمس نورها.
وإذا أريد بالسماء فرد معين معهود وهي ما نشاهده كالقبة الزرقاء في النهار وهي كرة الهواء، فمعنى {فرجت}: فساد عناصر الجو بحيث تصير فيه طرائق مختلفة الألوان تبدو كأنها شقوق في كرة الهواء كما في قوله تعالى: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] وكل ذلك مفض إلى انقرأض العالم الدنيوي بجميع نظامه ومجموع أجسامه.
والنسف: قلع أجزاء الشيء بعضها عن بعض وتفريقها مثل الهدم.
ونسف الجبال: دكها ومصيرها تراباً مفرقاً، كما قال تعالى: {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} [المزمل: 14].
وبناء هذه الأفعال الثلاثة بصيغة المبني للمجهول لأن المقصود الاعتبار بحصول الفعل لا بتعيين فاعله على أنه من المعلوم أن فاعلها هو الله تعالى إذ لا يقدر عليه غيره.
وجملة {وإذا الرسل أقتت} عطف على الجمل المتقدمة فهي تقييد لوقت حادث يحصل وهي مما جُعل مضمونها علامة على وقوع ما يوعدون به فيلزم أن يكون مضمونها مستقبل الحصول وفي نظم هذه الجملة غموض ودقة.
فَأمّا {أُقتت} فأصله وُقتت بالواو في أوله، يقال: وَقَّت وَقْتاً، إذا عين وقتاً لعمل ما، مشتقاً من الوقت وهو الزمان، فلما بني للمجهول ضمّت الواو وَهو ضم لازم احترازاً من ضمة.
{ولا تَنْسَوُا الفضل بينكم} [البقرة: 237] لأن ضمة الواو ضمة عارضة، فجاز إبَدالها همزة لأن الضم على الواو ثقيل فعدل عن الواو إلى الهمزة.
وقرأه الجمهور {أقتت} بهمزة وتشديد القاف.
وقرأه أبو عمرو وحده بالواو وتشديد القاف، وقرأه أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف.
وشأن {إذا} أن تكون لمستقبل الزمان فهذا التأقيت للرسل توقيت سيكون في المستقبل، وهو علامَة على أن ما يُوعدون يحصل مع العلامات الأخرى.
ولا خلاف في أن {أُقِّتَت} مشتقّ من الوقت كما علمت آنفاً، وأصل اشتقاق هذا الفعل المبني للمجهول أن يكون معناه: جُعِلت وقتاً، وهو أصل إسناد الفعل إلى مرفوعه، وقد يكون بمعنى: وُقِّتَ لها وقتٌ على طريقة الحذف والإِيصال.
وإذ كان {إذا} ظرفاً للمستقبل وكان تأجيل الرسل قد حصل قبل نزول هذه الآية، تعيّن تأويل {أُقِّتَت} على معنى: حَانَ وقتها، أي الوقت المعيَّن للرسل وهو الوقت الذي أخبرهم الله بأنْ يُنْذِرُوا أممهم بأنَّهُ يحلّ في المستقبل غيرِ المعين، وذلك عليه قوله: {لأيّ يوم أُجّلت لِيوم الفصل} فإن التأجيل يفسر التوقيت.
وقد اختلفت أقوال المفسرين الأولين في مَحْمَل معنى هذه الآية فعن ابن عباس {أُقِّتت}: جُمعت أي ليوم القيامة قال تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} [المائدة: 109]، وعن مجاهد والنخعي {أقتت} أُجِّلَت.
قال أبو علي الفارسي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً.
قال في (الكشاف): والوجه أن يكونَ معنى {وقتت} بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة. اهـ.
وهذا صريح في أنه يقال: وُقت بمعنى أُحْضر في الوقت المعيَّن، وسلمه شراح (الكشاف) وهو معنى مغفول عنه في بعض كتب اللغة أو مطوي بخفاء في بعضها.
ويجيء على القولين أن يكون قوله: {لأي يوم أجّلت} استئنافاً، وتُجعَل (أيُّ) اسم استفهام مستعمل للتهويل كما درج عليه جمهور المفسرين الذين صرّحوا ولم يُجْمِلُوا، والذي يظهر لي أن تكون (أيٌّ) موصولة دالّة على التعظيم والتهويل وهو ما يعبر عنه بالدّال على معنى الكمال وتكون صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما أضيفت إليه (أيٌّ) وتقديره: ليوممِ أيِّ يوممٍ، أي ليوممٍ عظيم.
ويكون معنى {أقتت} حضر ميقاتها الذي وُقِّت لها، وهو قول ابن عباس جُمعت، وفي (اللسان) على الفراء: {أُقتت} جُمعت لوقتها، وذلك قول الله تعالى: {يومَ يجمع الله الرسل} [المائدة: 109] وقوله: {فكيف إذا جِئْنَا من كل أمة بشهيد وجِئْنَا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
ويكون اللام في قوله: {لأي يوم أُجّلت} لامَ التعليل، أي جمعت لأجل اليوم الذي أُجّلت إليه.
وجملة {أُجّلت} صفة ليوم، وحذف العائد لظهوره، أي أجّلت إليه.
وقوله: {ليوم الفصل} بدل من {لأي يوم أُجِّلت} بإعادة الحرف الذي جُرَّ به المبدل منه كقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا} [المائدة: 114] أي أحضرت الرسل ليوم عظيم هو يوم الفصل.
والظاهر أن المبدل منه والبدل دليلان على جواب (إذا) من قوله: {فإذا النجوم طمست} الخ، إذ يُعلم أن المعنى إذا حصل جميع ما ذُكر فذلك وقوع ما تُوعدون.
وجملة {لأي يوم أجِّلت ليوم الفصل} قد علمت آنفاً الوجه الوجيه في معناها.
ومن المفسرين من جعلها مقول قول محذوف: يقال يومَ القيامة، ولا داعي إليه.
و{الفصل}: تمييز الحق من الباطل بالقضاء والجزاءِ إذ بذلك يزول الالتباس والاشتباه والتمويه الذي كان لأهل الضلال في الدنيا فتتضحُ الحقائق على ما هي عليه في الواقع.
وجملة {وما أدراك ما يوم الفصل} في موضع الحال من يوم الفصل، والواو واو الحال والرابط لجملة الحال إعادة اسم صاحب الحال عوضاً عن ضميره، مثلُ {القارعةُ ما القارعةُ} [القارعة: 1، 2].
والأصل: وما أدراك ما هو، وإنما أُظهر في مقام الإِضمار لتقوية استحضار يوم الفصل قصداً لتهويله.
و{مَا} استفهامية مبتدأ و{أدراك} خبرٌ، أي أعلمك.
و{ما يوم الفصل} استفهام عُلق به فعل {أدْرَاك} عن العمل في مفعولين، و{ما} الاستفهامية مبتدأ أيضاً و{يوم الفصل} خبر عنها والاستفهامان مستعملان في معنى التهويل والتعجيب.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}
حَمْل هذه الجملة عن نظائرها الآتية في هذه السورة يقتضي أن تُجعل استئنافاً لقصد تهديد المشركين الذين يسمعون القرآن، وتهويل يوم الفصل في نفوسهم ليحذروه، وهو متصل في المعنى بجملة {إِن ما تُوعَدُون لواقع} [المرسلات: 7] اتصال أجزاء النظم، فموقع جملة {ويل يومئذٍ للمكذبين} ابتداءُ الكلام، وموقع جملة {إذا النجوم طمست} [المرسلات: 8] التأخرُ، وإنما قُدمت لتؤذن بمعنى الشرط.
وقد حصل من تغيير النظم على هذا الوجه أن صارت جملة {ويل يومئذٍ للمكذبين} بمنزلة التذييل، فحصل في هذا النظم أسلوب رائع، ومعان بدائع.
وبعض المفسرين جعل هذه الجملة جواب (إذَا) أي يتعلق (إذَا) بالاستقرار الذي في الخبر وهو {للمكذبين}.
والتقدير: إذا حصل كذا وكذا حلّ الويل للمكذبين وهو كالبيان لقوله: {إن ما تُوعَدُون لواقع}، فيحصل تأكيد الوعيد، ولا يَرِد على هذا عُرُوّ الجواب عن الفاء الرابطة للجواب لأن جواب (إذا) جوابٌ صوري، وإنما هو متعلَّق (إذا) عومل معاملة الجواب في المعنى.
ثم إن هذه الجملة صالحة لمعنى الخبرية ولمعنى الإِنشاء لأن تركيب (وَيْل له) يستعمل إنشاء بكثرة.
والويل: أشد السوء والشرِّ.
وعَلى الوجه الأول يكون المُراد بالمكذبين كذبوا بالقرآن، وعلى الوجه الثاني في معنى الجملة جميعُ الذين كذبوا الرسل وما جَاءُوهُم به، وبذلك العموم أفادت الجملة مُفاد التذييل، ويشمل ذلك المشركين الذين كذبوا بالقرآن والبعثثِ إذ هم المقصود من هذه المواعظ وهم الموجه إليهم هذا الكلام، فخوطبوا بقوله: إنما توعدون لواقع.
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)}
استئناف بخطاب موجه إلى المشركين الموجودين الذين أنكروا البعث معترض بين أجزاء الكلام المخاطببِ به أهل الشرك في المحشر.
ويتضمن استدلالاً على المشركين الذين في الدنيا، بأن الله انتقم من الذين كفروا بيوم البعث من الأمم سابقهم ولاحِقهم ليحذروا أن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك الأولين والآخِرين.
والاستفهام للتقرير استدلالاً على إمكان البعث بطريقة قياس التمثيل.
والمراد بالأولين الموصوفون بالأولية أي السبق في الزمان، وهذا يقِرُّ به كل جيل منهم مسبوق بجيل كفروا.
فالتعريف في {الأولين} تعريف العهد، والمراد بالأولين جميع أمم الشرك الذين كانوا قبل مشركي عصر النبوة.
والإِهلاك: الإِعدام والإِماتة.
وإهلاك الأولين له حالتان: حالة غير اعتيادية تنشأ عن غضب الله تعالى، وهو إهلاك الاستئصال مثل إهلاك عاد وثمود، وحالة اعتيادية وهي ما سَن الله عليه نظام هذا العالم من حياة وموت.
وكلتا الحالتين يصح أن تكون مراداً هنا، فأما الحالة غير الاعتيادية فهي تذكير بالنظر الدال على أن الله لا يرضى عن الذين كذبوا بالبعث.
وأما الحالة الاعتيادية فدليل على أن الذي أحيا الناس يميتهم فلا يتعذر أن يعيد إحياءهم.
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)}
حرف (ثمّ) للتراخي الرُتبي لأن التهديد أهم من الإِخبار عن أهل المحشر، لأنه الغرض من سوق هذا كله، ولأن إهلاك الآخرين أشدّ من إهلاك الأولين لأنه مسبوق بإهلاك آخر.
ووقعت جملة {كذلك نفعل بالمجرمين} موقَع البيان لجملة {ألم نُهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين} [المرسلات: 16، 17]، وهو كالتذييل يبين سبب وقوع إهلاك الأولين وأنه سبب لإِيقاع الإِهلاك بكل مجرم، أي تلك سنة الله في معاملة المجرمين فلا محيص لكم عنها.
وذكر وصف {المجرمين} إيماء إلى أن سبب عقابهم بالإِهلاك هو إجرامهم.
والإِشارة في قوله: {كذلك} إلى الفعل المأخوذ من {نفعل} أي مثل ذلك الفعل نفعل.
و(المجرمون) من ألقاب المشركين في اصطلاح القرآن قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذي ءامنوا يضحكون} [المطففين: 29] وسيأتي في هذه السورة {كُلُوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون} [المرسلات: 46].
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)}
تقرير لنظيره المتقدم تأكيداً للتهديد وإعادة لمعناه.
التهديد: من مقامات التكرير كقول الحارث بن عياد:
قَرِّبَا مربَط النَعامة مني

الذي كرّره مراراً متوالية في قصيدته اللامية التي أثارت حرب البسوس.
فعلى الوجه الأول في موقع جملة {ويل يومئذٍ للمكذبين} يقدر الكلام المعوض عنه تنوين {يومئذٍ} يومَ إذ يقال لهم {ألم نهلك الأولين} [المرسلات: 16].
والمراد بالمكذبين: المخاطبون فهو إظهار في مقام الإِضمار لتسجيل أنهم مكذبون، والمعنى: ويل يومئذٍ لكم.
وعلى الوجه الثاني في موقع الجملة يقدر المحذوف المعرض عنه التنوينُ: يومَ إذ {النجوم طمست} [المرسلات: 8] الخ، فتكون الجملة تأكيداً لفظياً لنظيرتها التي تقدمت.
والمراد بالمكذبين جميع المكذبين الشامل للسامعين.
وعلى الاعتبارين فتقرير معنى الجملتين حاصل لأن اليوم يوم واحد ولأن المكذبين يَصدُق بالأحياء وبأهل المحشر. اهـ.